فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين.
وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيانِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فَكَرَّرَ قَوْلَهُ: إحْدَاهُمَا وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ الْأُخْرَى، لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى لَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَذْكِرَةِ الذَّاكِرَةِ النَّاسِيَةِ، فَلَمَّا كَرَّرَ إحْدَاهُمَا أَفَادَ تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْجَبَ بَدِيًّا اسْتِشْهَادَ شَهِيدَيْنِ، وَهُمَا الشَّاهِدَانِ؛ لِأَنَّ الشَّهِيدَ وَالشَّاهِدَ وَاحِدٌ كَمَا أَنَّ عَلِيمًا وَعَالِمًا وَاحِدٌ وَقَادِرًا وَقَدِيرًا وَاحِدٌ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} يَعْنِي إنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} مِنْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} وَكَقَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْأَبْدَالِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ أَصْلِ الْفَرْضِ عِنْدَ عَدَمِهِ.
أَوْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَالشَّهِيدَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَأَفَادَنَا إثْبَاتَ هَذَا الِاسْمِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى يُعْتَبَرَ عُمُومُهُ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ فَثَبَتَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ تَسْمِيَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْمًا شَرْعِيًّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا أُمِرْنَا فِيهِ بِاسْتِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، إلَّا مَوْضِعًا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ» وَإِثْبَاتُ النِّكَاحِ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ إذْ قَدْ لَحِقَ اسْمُ شَهِيدَيْنِ، وَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فِيهِ تَأْوِيلَانِ وَقِرَاءَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهَا ذِكْرًا، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ.
الثَّانِي: أَنْ تُنَبِّهَهَا إذَا غَفَلَتْ وَهِيَ قِرَاءَةُ التَّثْقِيلِ؛ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا} وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْقُبَ الضَّلَالَ وَالْغَفْلَةَ الذِّكْرُ، وَيَدْخُلُ التَّأْوِيلُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً مَعَ رَجُلٍ فَيُذَكِّرَهَا الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهَا إذَا نَسِيَتْ؛ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ مَا أَرَادَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَأَوْفَى بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ وَأَنْوَاعَ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَدْ أَشَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَّرَهَا إذَا نَسِيَتْ لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كَانَتْ امْرَأَتَيْنِ وَذَكَّرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَالرَّجُلِ يَسْتَذْكِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَذَكَّرُ. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء}:

.قال القرطبي:

لما قال الله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} دل على أن في الشهود من لا يُرْضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنىً زائدٌ على الإسلام؛ وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فِسْق ظاهر فهو عَدْلٌ وإن كان مجهول الحال.
وقال شُرَيح وعثمان الَبتِّى وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدًا.
قلت: فعمَّمُوا الحكم؛ ويلزم منه قبول شهادة البَدَوي على الَقَروي إذا كان عدلًا مرضيًا وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا وأهل ديننا.
وكونهُ بدَوِيًا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوِّي بين الَبَدوِي والقَرَوِي؛ قال الله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} وقال تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] فمنكم خطاب للمسلمين.
وهذا يقتضي قطعًا أن يكون معنى العدالة زائدًا على الإسلام ضرورةً؛ لأن الصفة زائدة على الموصوف، وكذلك {مِمَّن تَرْضَوْنَ} مثلهُ، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضيًا حتى يُخْتَبر حاله، فيلزمه ألا يكتفى بظاهر الإسلام. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحًا للشهادة والفقهاء قالوا: شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حرًا بالغًا مسلمًا عدلًا عالمًا بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه، ولا يكون معروفًا بكثرة الغلط، ولا بترك المروأة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين.
قال ابن بُكيَر وغيره: هذه مخاطبة للحكّام.
ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المُتَلَبِّسِ بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعمّ الخطاب فيما يتلبس به البعض. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ دِيَانَاتِ النَّاسِ وَأَمَانَاتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ إنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ إذْ لَا يَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وَلَا خَبَايَا أُمُورِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَمْرِ الشُّهُودِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَمْرَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِنَا وَمَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِ طَرَائِقِهِمْ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَغْلِبَ فِي ظَنِّ بَعْضِ النَّاسِ عَدَالَةُ شَاهِدٍ وَأَمَانَتُهُ فَيَكُونُ عِنْدَهُ رِضًى، وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرِضًى؛ فَقَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} مَبْنِيٌّ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ.
وَاَلَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّهَادَةِ أَشْيَاءُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ، وَالْآخَرُ نَفْيُ التُّهْمَةِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، وَالثَّالِثُ: التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ.
أَمَّا الْعَدَالَةُ فَأَصْلُهَا الْإِيمَانُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.
وَأَمَّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا أَوْ زَوْجًا وَزَوْجَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَدْ شَهِدَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَرُدَّتْ لِتُهْمَةٍ.
فَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِمَنْ ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا مَرَضِيَّيْنِ.
وَأَمَّا التَّيَقُّظُ وَالْحِفْظُ وَقِلَّةُ الْغَفْلَةِ فَأَنْ لَا يَكُونَ غُفُولًا غَيْرَ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ رُبَّمَا لُقِّنَ الشَّيْءَ فَتَلَقَّنَهُ، وَرُبَّمَا جُوِّزَ عَلَيْهِ التَّزْوِيرُ فَشَهِدَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ صَوَّامٍ قَوَّامٍ مُغَفَّلٍ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُلَقَّنَ فَيَأْخُذَ بِهِ، قَالَ: هَذَا شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ فِي شَهَادَتِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيمَا الْمُحَبِّرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ هِلَالٍ عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إنَّ إيَاسًا رَدَّ شَهَادَتِي فَقَامَ مَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا مَلْكَعَانُ لِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ؟ أَوَ مَا بَلَغَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ}؟ وَإِنَّ صَاحِبَك هَذَا لَيْسَ نَرْضَاهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا السِّرِّيُّ بْنُ عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ: أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، فَبَلَغَ الْحَسَنُ وَقَالَ: قُومُوا بِنَا إلَيْهِ قَالَ: فَجَاءَ إلَى إيَاسٍ فَقَالَ: يَا لُكَعُ تَرُدُّ شَهَادَةَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ أَرْضَى.
قَالَ: فَسَكَتَ الْحَسَنُ، فَقَالَ خَصْمُ الشَّيْخِ: فَمِنْ شَرْطِ الرِّضَا لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُتَيَقِّظًا حَافِظًا لِمَا يَسْمَعُهُ مُتْقِنًا لِمَا يُؤَدِّيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صِفَةِ الْعَدْلِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَلِمَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ وَمَا يُشْبِهُ مَا تَجِبُ فِيهِ مِنْ الْعَظَائِمِ وَكَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ.
وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ قَالَ: وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْجَمَاعَةِ اسْتِخْفَافًا بِذَلِكَ أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ وَكَانَ عَدْلًا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ قَالَ: وَإِنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ لَمْ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ وَرُبَّمَا اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَالْخَيْرُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الشَّرِّ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لَيْسَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الذُّنُوبِ. اهـ.
ثم قال رحمه الله:
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ إذْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ مِنْ مَعَالِمِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ فِي وَثَائِقِهِمْ وَإِثْبَاتِ حُقُوقِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ إمْضَاءُ حُكْمٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنْ طَرِيقِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِإِمَامٍ مَعْصُومٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ وَاحْتِجَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ كُلَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ دُونَ غَالِبِ الظَّنِّ وَأَكْثَرِ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ إمَامٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُؤْمَنْ الْخَطَأُ فِيهَا لِأَنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مَأْمُونًا عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَرْضِيِّينَ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ دُونَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُغَيَّبِ أُمُورِهِمْ مَعَ جَوَازِ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِمْ، ثَبَتَ بُطْلَانُ الْأَصْلِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَ النَّصِّ.
فَإِنْ قَالُوا: الْإِمَامُ يَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ.
قِيلَ لَهُمْ: فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ الْإِمَامِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِمَامِ قَاضٍ وَلَا أَمِينٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْعِصْمَةِ وَفِي الْعِلْمِ بِمُغَيَّبِ أَمْرِ الشُّهُودِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ إلَّا مَعْصُومًا مَأْمُونَ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ؛ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ حُكَّامٌ وَشُهُودٌ وَأَعْوَانٌ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ ثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَغَالِبِ الظَّنِّ.
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ اعْتِبَارِ أَحْوَالٍ الشُّهُودِ بِمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ عَدَالَتِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ وَالْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَنْسَابَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ عُقِدَ بِهَا مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ مُغَيَّبَ أُمُورِهِمْ وَإِنَّمَا نَحْكُمُ بِشَهَادَاتِهِمْ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ تَجْوِيزِ الْكَذِبِ وَالْخَطَإِ وَالزَّلَلِ وَالسَّهْوِ عَلَيْهِمْ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالُ غَلَبَةِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَلَا اتِّفَاقَ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ الْمُقَصِّرَةِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ بِمُخْبِرَاتِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْحُكْمِ بِهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي الْمُغَيَّبِ بِخِلَافِهِ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ خَبَرِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ.
وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى رَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ بِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَاهَا لَكِنَّا قَدْ جَعَلْنَا مَنْزِلَةَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذْ لَمْ يَجِبْ فِي الْأَصْلِ قَبُولُ خَبَرِ النَّبِيِّ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عِلْمُ مُعْجِزَةٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ. اهـ.
ثم ختم كلامه رحمه الله بقوله:
هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: مِنْ الْعَدَالَةِ، وَنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَقِلَّةِ الْغَفْلَةِ؛ هِيَ مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَاتِ، وَقَدْ انْتَظَمَهَا قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} فَانْظُرْ إلَى كَثْرَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي ضِمْنِ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ وَبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَوَجَازَتِهِ وَاخْتِصَارِهِ وَظُهُورِ فَوَائِدِهِ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ ذِكْرِنَا لِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاسْتِنْبَاطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي مَضْمُونِهِ وَتَحَرِّيهِمْ مُوَافَقَتَهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ؛ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ إيرَادُ لَفْظٍ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْمَعَانِي وَالدَّلَالَاتِ وَالْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ اخْتِصَارِهِ وَقِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ.
وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ مَعَانِيهِ مِمَّا لَوْ كُتِبَ لَطَالَ وَكَثُرَ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِنَعْلَمَ أَحْكَامَهُ وَدَلَائِلَ كِتَابِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ. اهـ. بتصرف يسير.